خطاب صاحبة السمو الأميرة للا لمياء
رئيسة المنظمة العلوية لرعاية المكفوفين بالمغرب
أخواتي إخواني
منذ لحظة الحياة الأولى، وانطلاق القافلة، وبداية رحلة العمر في مسلسل الزمن اللامتناهي، كانت المفارقات، وكانت المتناقضات.
منذ ذلك الحين كان الوجه، والوجه الآخر. فكانت الدمعة مع الابتسامة، وكان البؤس مع السعادة، وكان الألم والراحة، وكان القلق مع الاستقرار، وكان الظلام مع وضح النهار.
جاء الدنيا، أبصر النور، وكأن الدنيا والنور صنوان، وكان الذي لم يبصر النور لم يلج عتبة الدنيا، أو أنه أتاها من غير أبوابها، لكأنه دخلها من باب خلفي، وكتب عليه العيش في سراديب الحياة، يفتش عن المصباح الدائم، حيث ظلام البصر، يختم ظلمات القدر.
من هنا البداية.
وذلك هو الارتباك الأزلي والذي يختصر العام بكلمتين:
الأعمى والمبصر.
حياة مبتورة لهذا، وحياة كاملة لذلك ولم التفريق؟ هل الحياة رؤيا؟ والدنيا مشهد؟ والعيش صورة متحركة؟ وهل إنسانية الإنسان تمارس بالبصر؟ أي أنه عين فحسب ؟ لا روح، لا قلب، لا عقل لا لحم ولا دم؟
بلى، هو كل هذا مضاف إليه بصر أو بصيرة.. البصيرة.. عين الفؤاد أعطيت للأعمى عوضا، وسبحان مسوي الفرص والحظوظ.
الله سوى بين الأعمى والمبصر بالبصيرة، فإذ هو حرمه من عين في جبينه، عوضه بعين ثاقبة في قلبه.
الله سوى بينهما يأتي العبد ويفرق؟ أقسط الحياة عند المبصر حق، وعند الأعمى منحة؟
منحة من لمن؟
ومن نحن لإعادة توزيع الحظوظ والفرص؟
اليوم نحن في ذكرى من حرم حاسة البصر نتذكرهم لنتعرف إلى مشاكلهم، رائدنا الخير لا شك نريد تعوض نقص، أو التكفير عن ذنب أو خطيئة ولكن المطلوب هو تقويم خطأ وإصلاح اعوجاج، وإعادة نظر في تركيب مجتمع، لا يصنف الناس وفق مظاهر سطحية بعيدة عن الجوهر.
إذ لا مكان في مجتمع مؤمن حق الإيمان بعدالة الباري ولا في مجتمع متطور حديث. يعين مقدارات الإنسان الحقة، إلى مثل منظمتنا هذه.
وليس الحديث شفقة، ثم عطاء، بل هو حديث مواطنة كاملة، ومواطنة ناقصة، فالأعمى ليس إنسانا ناقصا ليكون مواطنا ناقصا وليس المهم أن نعطيه بل أن نعيد تقييم مكانه ومكانته في المجتمع، وأن نحوله من أبواب الحياة الخلفية إلى أبوابها الرئيسية المشروعة، والرحبة الآفاق. إنه إنسان من دم ولحم وقلب وعقل وروح، وبصر هجر وجهه ليختبئ في ثنايا فؤاده وفي راحة يده.
لم يبصر النور، ولكن النور أبصره، فدخل قلبه وشع وتشعب فيه.
إخواني أخواتي:
إني أتوق إلى بلوغ اليوم الذي سأتوجه فيه إليكم لآخر مرة، قائلة:
إن بعد اليوم لم يعد لمثل مؤسستنا المكان في مجتمع متحضر، أما أنتم يا إخواني المكفوفين، إنكم تتمتعون من الآن فصاعدا بحق المواطنة الكاملة، وفرص التعليم للأطفال منكم والوقاية لأبنائكم، والعمل لشبابكم والمأوى لعجزتكم أصبحت متوفرة، متساوية تماما كما يتمتع بها كل مواطن أميرا كان، أم تاجرا أم موظفا.
لو كنت أعطيت هبة الرؤيا عبر الأثير لرأيت علامات الشك على بعض الوجوه، ولكن لم لا؟ انه ليس حلما جميلا من أحلام اليقظة يراودني بل لربما كان هدفا فيه شيء من الطموح. لابد أن نصل إليه طال الزمن أم قصر، بمؤازرة كل فرد منكم لنا، حيث تختصر المسافات، ويدور عقرب الزمن بسرعة، وخاصة أننا قطعنا في هذا المجال شوطا بعيدا.
لن أتوغل في التفاصيل:
ولكن يحلو لي في هذه الأمسية أن أعود بالذكر إلى بداية القصة، قصة كفاحنا من أجل الحياة الفضلى للمكفوفين، قصة صراعنا مع الصعاب لتامين رعاية المكفوفين في بلادنا الحبيبة.
ذات يوم جاءني من يقول:
لقد اجتمع المكفوفون وقرروا اختيارك لتولي أمرهم، وتوحيد جمعياتهم.
كم شعرت بنشوة الفخر لهذا الاختيار مع يقيني أنني اخترت لأنني زوجة الأمير مولاي عبد الله ولعل هذه المكانة تسهل وتسير أمورهم.
ولكن بالإضافة إلى هذا الاعتبار كنت أريد من كل قلبي، وبكل صدق وإلحاح خدمة وطني الثاني في أي ميدان كان وعلى أي صعيد كان، هذا الوطن الذي غمرني أهله بالخير والمحبة والعطف، وأكاد أقول أنني أحبه أكثر من وطني الأم لأن لي فيه الآن عطاء العمر وهبة الخالق: هشام وزينب. ولكن حبي له تربى وترعرع مع شعوري العميق بوحدة أمتنا العربية والإسلامية، فانطلقت بهذا الدافع.
واجتمعت بمن اعتبرت يوم ذاك أنهم يمثلون مكفوفي المغرب، وكانت البداية فيها التعثر والتخبط وعدم التركيز. نتوقف عند التفاصيل وننسى الجوهر نكبر الصغيرة ونصغر الكبيرة إلى أن بلغنا حدود اليأس، وتوارى عنا كل سراب يمكن أن يتراءى.
ووقفت أمام السؤال الملح: من أين أبدأ؟ فكانت تساورني حالات قلق: أنا، وبأي مشيئة يحق لي أن أتصرف، لا أقول بمصير، بل بجزء من مصير إنسان: هو بشر مثلي؟ وكيف بك وهم آلاف؟
فاعترتنا هيبة، وكان افتقادنا للبدر في الليلة الظلماء، وللفرقد في الظلام الدامس فتوجهت إلى المرشد الأول ملكنا الحسن عارضة عليه أمري وأمر من وضعوا أملهم في طالبة منه الحل والنصح واني أستعيد الآن تلك المشورة السامية التي كانت خطة العمل وإشارة الانطلاق لما بلغناه اليوم، قال:
«اسمعي يا لمياء، عليك بالصبر الكبير، وبالصدر الرحب، وطول الأناة، وحدي كلمتهم، حاوريهم بالحسنى والإقناع، تعرفي إلى مشاكلهم بكل تفاصيلها، وضعي سلما تراتبيا بالأولويات، ولكن لابد من اعتماد علم الإحصاء فالأرقام والتخطيط هي القاعدة العلمية للعمل الناجح، وسيكون الحاج أمحمد الوزير المكلف بكم وهو أجدر من سيقوم بهذه المهمة الإنسانية لما له من صفات قلبية، وإذا اعترضتك الصعوبات مجددا عودي إلي».
خرجت من ذلك اللقاء، وفي قلبي حماس اليوم الأول، واندفاع المبتدئات، وهكذا نشأت المنظمة العلوية لرعاية المكفوفين.
وهذا الأسبوع الذي احتفلنا به، أردناه منبرا تنطلق منه حملة وتوعية المسؤولين والرأي العام وتسلط عبره الأضواء على مشكلة الضرير. إذ أن الوعي هو المشكلة الرئيسية لكل حركات التغيير، وهو أيضا بداية تغيير هذا الواقع، والآن الذي يعلم ولا يعمل جريمته اكبر بكثير من الجاهل.
ولكن المبادرة المنتجة الفاعلة الصادقة لا تكون بالكلام، لان الكلام هو أسهل العطاءات وأقلها جدوى، والمبادرات يجب أن تتحرك عندما يترامى إلى أسماع أصحابها النتائج التي استطاعت مؤسستنا أن تجنيها.
فقد تمكنا من تحريك الضمائر، ولفت الانتباه، وإثبات حقيقة واضحة وضوح الحقيقة نفسها إذ أن عدم مقدرة الضرير على القيام بنشاطات عديدة هو وهم، وهم قد تبدد. وأن العمى ليس مرضا عضالا. ولكنه عقبة في طريق الكفيف يمكن أن يتجاوزها إذا هيئت له الأسباب. أن الضرير في المغرب يقول كما يقول المثل الصيني «لا تطعمني السمك بل علمني فن الصيد»، وأنا لا أريد أن أكون عالة على أحد بل أريد أن أعمل كالآخرين، لشرط أن يمد لي المبصر يده لنسير لفترة على درب التحصيل والعمل مهما بلغت دقته.
من هنا، من هذه الروح المتوثبة والمتفجرة بحب العطاء والتضحية استنفرت الطاقات وأعدت المشاريع وستتخذ القرارات، ولكن أترك للمسؤولين في الدولة الإعلان عنها في حينها، لا تنصلا ولا هربا من المسؤولية بل تقيدا بالإطار العام للمنظمة، لأنني أعود وأكرر: هذه المنظمة لا تملك صلاحيات اتخاذ القرارات ولا إمكانيات تنفيذها، وإن تبادرت لبعض الأذهان أنها قادرة، أو لها السلطة الكاملة لتواجه جميع مشاكل المكفوفين على اتساعها وعمقها أقول رفعا لكل التباس أنها غير قادرة.
وأن المسألة المطروحة أمامنا اليوم لشبيهة بميزان في إحدى كفتيه مستقبل مشاكل عشرات الآلاف من المكفوفين وسواء هم من الطبقة الفقيرة، مثقلة بما يحتاجون إليه من تعليم وتكوين وتشغيل ومأوى وعلاج. وفي الكفة الأخرى أفراد معدودون يكونون المنظمة العلوية لرعاية المكفوفين. يشهد الله أن رائدهم الخير والإخلاص والتفاني، ولكن لا سلطان لهم ولا مورد سوى ما يجنى من أسبوع الضرير وما يغدق عن المنظمة جلالة الملك من ماله الخاص.
«فكيف تريدون لهذه المنظمة، أن تهدم بيد تكاد أن تكون عزلاء هذا الجيل من المآسي والصعاب؟ إن عملا حيويا وجبارا كهذا هو من اختصاص الدولة ولكن أقول، وأقول: بلا مبالغة وبكل اعتزاز أن مع ضخامة العمل وضآلة الإمكانيات تمكنت هذه المنظمة أن تقوم بتجارب نموذجية. إذا أمكن لي التعبير هكذا، بميدان تكوين وتشغيل المكفوف تضاهي بها الدول حتى التي هي أكثر منا تقدما لا أقول تضاهيا بالكمية ولكن بالنوعية.
هذه الخبرة، ثمار وعصارة ست سنوات نقدمها للدولة، وعليها أن تتصرف، لأن تعميمها هو من اختصاصها واختصاصها فقط.
وهذه التجارب محكوم عليها أن تبقى في طور التجارب طالما أن الدولة لم تتعهدها وتخلف هذه المنظمة مستفيدة من خبرتها وأخطاءها لأن الخطأ تجربة».
ومع ذلك وانتظارا لما سيكون فمسيرة العمل الجدي والإنتاج مستمرة. دون التلفت إلى السلبيات والمواقف القائمة على الانفعال لا على الفعل.
ولقد تعمدنا تواضعا في الوعود لكن تتكلم الأعمال وهي أبلغ من يتكلم، وأن الصمت هو الذي ينطق عن المنجزات، التي تحققت، وأن جميع أفراد هذه المنظمة وهم حفنة من الناس جمعتهم الصدف وأبقاهم الإيمان. مارسوا الصدق قولا وعملا، وليس الصدق الأخلاقي فحسب بل بالمعنى العقلي وهو الأهم، علما بأن هذه المؤسسة ليست جمعية خيرية تجمع الثياب والمآكل لتوزعها في حفلات تسلط عليها الأضواء وإذا فعلنا ذلك في بعض الأحيان، فلنتدارك حالات قصوى اضطرارية ذلك أن أجمل العطاء هو الذي لا ينال من كرامة المعطى إليه ولا من إنسانيته.
ورجائي كبير أن يبدأ بالتنفيذ لأنها المرة الأولى التي نلقي فيها تجاوبا تاما من جانب بعض المسؤولين وأرجو أن لا نعد اليوم عمل الأمس، ونهيئ للغد من كان يجب أن يكون عندنا اليوم، فنحاول أن نجعل الوقت في مصلحتنا، فالزمن عامل يقف إلى جانبنا إذ عملنا بحيوية وزدنا نسبة حركتنا الإنتاجية كما أن الوقت يمكن أن يكون ضدنا إذا اعترانا الركود.
إني أخاف من الحذر الذي يوصل إلى حدود التردد والخوف من كل جديد أو غير مألوف.
لأن عند هذا الجيل من المكفوفين بلغت سرعة الأحداث، بل السرعة فحسب أضعاف أضعاف ما كانت تفيض به عشر سنين من حياة الجيل الذي سبق ويجب أن لا يغيب عن أذهاننا أولا أن الشباب لا ينتظر، وكيف بك بالشباب المكفوف؟ ثانيا أنه يصدق، ولأنه يصدق يحاسب ولأنه لا ينتظر يجيء حسابه سريعا وعسيرا.
اسمحوا لي لقد أخذت من أوقات تسليتكم، ولكن لا نطلب إلا المزيد من البذل والعطاء لكل من فقد بصره، وكم تعظم الثقة بالنفس، عندما نتوفق في نقل الفرح والسعادة إلى كل محتاج، وعندما ندرك أن مساهمتنا قد خلقت إنسانا جديدا نمشي معه سويا في الحياة، ونبني في هذا الوطن الحبيب.
وقبل أن أودعكم أريد أن أعبر عما يطفح به قلبي من ثناء وشكر للذين ساندونا باستمرار سواء كانت هذه المساندة أدبية أو مادية، فعام بعد عام تتسع الحلقة، وتتوثق العروة وتتضاعف السواعد.
فكل هذا أعظم اعتزاز لهذه المنظمة وأكبر تشجيع لاستمرارها في عملها فطوبى لكل من رفع مشعلا، وأضاء طريقا وبدد ظلاما.